من المعروف أن سوء التغذية malnutrition يعد من أهم المشكلات الصحية التي تؤثر على صحة الأطفال، إذ يمكن أن يتسبب سوء التغذية الشديد في بعض الأحيان في حدوث الوفاة كما هو الحال في بعض البلدان الأفريقية التي تعاني من النقص الحاد في الغذاء، بل وتمتد خطورة الأمر إلى الدول المتقدمة، حيث أشارت التقارير الأميركية إلى أن هناك نحو 8 ملايين شخص يعانون في فترات مختلفة من حياتهم من عدم توفر الغذاء الكافي Food insecurity بمعنى عدم قدرة هذه الأسر دائما على الوفاء بالتزاماتها الغذائية نحو أبنائهم في العام الواحد.
سوء التغذية والبلوغ:
على الرغم من أن الآثار الوقتية لنقص الغذاء وسوء التغذية على الأطفال متوقعة ومعروفة، فإن الغريب في الأمر أن ما لم يكن متوقعا هو أن تمتد آثار سوء التغذية حتى فترة البلوغ وتتسبب في بعض المتاعب الصحية لاحقا، وهو ما يعني أن الأمر لا ينتهي بتدارك سوء التغذية وعلاجه، ولكن يمتد أثره ليؤثر على الصحة العامة مستقبلا وذلك حسب أحدث الدراسات الطبية التي نشرت في مجلة "ارتفاع ضغط الدم" الصادرة عن جمعية القلب الأميركية، والتي تشير إلى أن سوء التغذية الشديد في الطفولة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم لاحقا في البلوغ وهو الأمر الذي يمثل خطورة صحية مستقبلا.
وأشارت الدراسة إلى أن سوء التغذية الحاد في الفترة التي تمتد منذ ما قبل الولادة وحتى عمر الخامسة تؤثر لاحقا على تكوين القلب، وأوضحوا أنه في هذه الفترة الحرجة من العمر تحدث فيها تغيرات كبيرة يمكن أن تكون نهائية إذا لم يجر الوفاء بالاحتياجات الغذائية بالشكل الملائم والكافي تؤثر على شكل القلب وسريان الدم من خلاله لاحقا في الحياة وهو ما يمثل تحديا كبيرا أمام منظمة الصحة العالمية، خاصة في البلدان التي تعاني من النقص الحاد في الغذاء مثل دول العالم الثالث.
وتلفت هذه الدراسة الأنظار إلى ضرورة العناية بصحة الأم في المقام الأول والاهتمام بحصولها على الغذاء الكافي في مرحلة الحمل حتى لا يؤثر على الجنين، حيث إن هذا النقص يمكن أن يمتد أثره إلى بقية حياته.
وكانت الدراسة التي تابعت 116 من البالغين في عمر الخامسة والأربعين من الرجال والنساء وكان بعضهم قد عانوا من سوء التغذية في فترة طفولتهم بينما كان الآخرون ممن لم يعانوا من سوء التغذية ونقص الغذاء، وتبين أن الذين تعرضوا لسوء التغذية كانت أرقام قراءة ضغط الدم لديهم مرتفعة خاصة القراءة الأقل diastolic blood pressure.
وحدث هذا الارتفاع في عمر مبكر جدا بداية من العشرينات والثلاثينات من العمر، وكانت هناك أيضا تغيرات في فحوصات الأشعة التلفزيونية على القلب التي أوضحت ضعف كفاءة ضخ الدم من خلال القلب وزيادة مقاومة الدم في الأوعية الدموية الطرفية كنتيجة لارتفاع ضغط الدم.
وكل هذه العلامات تشير بوضوح إلى زيادة الخطورة من حدوث ارتفاع ضغط الدم الذي يؤدي إلى الكثير من أمراض القلب ويجعل الإنسان أكثر عرضة للإصابة بأمراض الجلطات سواء الجلطات الدماغية أو الجلطات في القلب وكذلك يمكن حدوث نزيف وغيرها من المضاعفات الخطيرة إذا لم تجر السيطرة على الضغط من خلال العلاج الكيميائي.
مشكلات صحية:
وفي نفس السياق أشارت دراسة سابقة قام بها باحثون هولنديون ونشرت في مجلة أمراض القلب الأوروبية European Heart Journal إلى وجود علاقة قوية بين سوء التغذية في الطفولة والكثير من المشكلات الصحية لاحقا في البلوغ.
وكانت هذه الدراسة قد قامت بتتبع التاريخ المرضي لنحو 8000 امرأة تعرضن لظروف بيئية وسوء تغذية شديدة حينما كن طفلات في أربعينات القرن الماضي في الفترة من عام 1944 وحتى عام 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي ساد فيها نقص الغذاء والرعاية الصحية خاصة في هولندا فيما عرف بمصطلح (المجاعة الهولندية Dutch famine).
وتبين وجود علاقة قوية بين سوء تغذية هؤلاء النسوة في مرحلة طفولتهن وإصابة الكثير منهن بأمراض الشرايين التاجية لاحقا حينما أصبحن سيدات بالغات، وكانت الفتيات اللاتي يبلغن من العمر من 10 سنوات إلى 17 سنة في هذه الفترة من المجاعة قد عانين من أمراض القلب لاحقا بنسبة 38 في المائة أكثر من أقرانهن اللاتي تعرضن بشكل أقل حدة أو لم يتعرضن تماما لنقص الغذاء.
وأشارت هذه الدراسة إلى أن آثار سوء التغذية يختلف حسب السن التي يتعرض فيها الطفل لسوء التغذية وتسوء الحالة أكثر كلما كان الطفل في عمر أقل، حيث تكون معظم أجهزة الجسم لم يجر اكتمالها بشكلها الكامل ويمكن أن تتسبب في أمراض مزمنة في البلوغ مثل الإصابة بمرض البول السكري وأمراض القلب وحساسية الصدر.
وتعد هذه الدراسات بمثابة ناقوس الخطر الذي يهدد الصحة العامة لملايين البشر حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، التي تشير إلى أن نقص الغذاء يشمل الكثير من البلدان في عدة قارات وليس أفريقيا فقط، خاصة أن الأثر الممتد لخطورة سوء التغذية يستلزم تضافر الكثير من الجهود لمواجهة تلك المشكلة.