بعد أيام عرفت (شيماء) أن (سامح) قد خطب (داليا) ..وراحت (نهى) تواسيها:
- أعرف أنه فعل ذلك ليغيظك لا أكثر..لكن دعك منه
فقالت (شيماء) :
- ومن قال لك أنه تمكن من ذلك؟ .. (سامح) كان تجربة فاشلة في حياتي وذهبت لحال سبيلها بعد أن تركت في قلبي جرحا غائرا قضى على كل شعور نحو (سامح) ..
ربتت (نهى) على كتف (شيماء) ثم تركتها لانشغالها بمجموعة السياح التي معها..
وفي المساء كانت (حنان) تجلس مع (فارس) في بيت والديها وتقول بانفعال:
- لا أصدق أنك أنت من تقول لي هذا الكلام..بدلا من أن تطلب مني أن أزداد في الحشمة تريد مني أن أخلع حجابي في يوم عرسنا؟
زفر (فارس) وقال:
- يا حبيبتي إنه يوم واحد لن يضر،وأنا لم ولن أطلب منك خلعه على الدوام..
ثم أردف معاتبا:
- ولعل ذلك يكون تعويضا عما حدث في يوم خطبتنا
كانت (حنان) تحاول كظم غيظها كي لا تنفجر في وجهه..فأشاحت بوجهها وأمسكت بفنجان الشاي الذي أمامها لترشف منه،ثم غيرت مجرى الحديث كي لا يزداد الأمر سوءا..وبعد أن غادر دخلت إلى غرفتها وهي تضرب كفا بكف..
تذكرت كلماته في أول يوم خرجا فيه معا وهو يقول أنه معجب بحجابها وهذا يكفيه..ولكنها فوجئت أنه لا يمانع من التخلي عنه في ذلك اليوم..يوم واحد فقط..
تأوهت بألم عندما مشطت شعرها بقوة بسبب العصبية التي استولت عليها..
لن أتنازل ولن أرضخ له..وليفعل ما يشاء..
في اليوم التالي كانت تقف مع (شيماء) في المتحف المصري في انتظار السياح،وكانت تتكلم بعصبية شديدة..
- اهدئي يا (حنان) ..من وجهة نظري أرى أنه لم يخطئ..
رمتها (حنان) بنظرة نارية فأكملت (شيماء) بسرعة:
- لكني أتفق معك في التمسك بمبدئك وعدم الرضوخ أو التنازل مهما حدث..لقد تنازلتُ من قبلك وكانت النتيجة كما رأيتِ
وضعت (حنان) نظاراتها الشمسية على قصبة أنفها وهي تقول:
- سأخبره بقراري عندما أتصل به
* * *
انفعل (فارس) عندما أخبرته (حنان) بما قررته سابقا..
" إذن أنت تصرين على وضعي في موقف محرج مرة أخرى "
رفعت (حنان) أحد حاجبيها استنكارا وهي تقول:
- مرة أخرى؟!
صاح بنفس اللهجة:
" أجل مرة أخرى..أنا لم أكن أريد إخبارك بما سمعته من أقربائي وأصدقائي تعليقا عما حدث في ذلك اليوم "
جلست (حنان) على سور الحديقة التي تتوسط مدخل المتحف وراحت تهز ساقها بعصبية وهي تقول:
- وماذا قالوا؟
" وهل يهمك أن تعرفي؟ ..أنت لا تفكرين إلا بنفسك فقط ولا تهتمين لوضعي أمام الناس "
- (فارس) ..أنا أهتم لوضعك جيدا،لكني لن أتنازل عن قراري
وبعد بضع كلمات انتهت المكالمة..
كانت (حنان) تشعر بالضيق الشديد لكنها انتظرت حتى عادت إلى بيتها لتفكر بهدوء..وبينما هي تستحم أحست بشيء ما في صدرها..تجمدت في مكانها وراح قلبها يدق بعنف ثم تحسست المكان مرة أخرى لتشعر بكتلة صغيرة جدا تحت أناملها..
خانتها قدماها فجلست على طرف حوض الاستحمام وضربات قلبها تتسارع..ماذا عساه يكون ذلك الشيء..وراحت كل الأفكار السوداء تموج في رأسها،فأنهت حمامها بسرعة وخرجت وجسدها يرتجف واتصلت بـ (شيماء) ..
كان صوتها مرتجفا وخائفا وقد اختلط بالدموع وهي تخبرها بما وجدت..وطلبت منها أن تذهب معها في الغد إلى الطبيبة للكشف..
حاولت (شيماء) أن تهدئ من روع صديقتها وهي تطمئنها أنها بخير وأن هذه أوهام وليس أكثر.. وذهبت الفتاتين في اليوم التالي إلى الطبيبة التي حولتها لعمل أشعة وفحص بالموجات فوق الصوتية..
وبعد انتهاء الفحص انتظرت حتى تأخذ التقرير..وفور أن نادت الممرضة على اسمها انتفضت لكن (شيماء) قامت وتسلمت الملف بدلا منها..
ترددت (حنان) في فتح الملف فانتظرت حتى ركبتا السيارة معا وقامت بفتحه وقراءة التقرير ثم انفجرت في البكاء..
أخذت (شيماء) منها الورقة بيد مرتجفة وقلبها يدق كالطبل..كانت النتيجة إيجابية بوجود ورم سرطاني..
حاولت تهدئتها واتفقت معها على الذهاب غدا إلى أخصائي أورام لمعرفة ما يجب فعله،فربما كان هناك خطئا ما..وأكدت عليها ألا تخبر والديها مؤقتا..ثم عادت إلى البيت وهي تشعر بثقل في صدرها.. منعت دموعها بالقوة كي لا يفتضح أمرها أمام والدتها،ودخلت غرفتها على الفور..
حاولت النوم لكنها لم تستطع فراحت تتقلب على فراشها وهي تفكر في حال صديقتها..كيف حدث هذا لها؟ إنها لا تزال صغيرة..
أما (حنان) فلم تتوقف عن البكاء منذ أن أوت إلى فراشها وهي تفكر..هل ستموت أم أن هناك إمكانية للعلاج والعيش حياة طبيعية؟ ..
وفجأة جاءها خاطر ما..هل هذا عقاب من الله لأنها اختارت شخصا مثل (فارس) ؟..بالفعل (فارس) لا يتفق معها في طريقة تفكيرها،كما أنه يريدها متحررة أكثر من هذا..يريدها كما كانت قبل شهور..يريد منها التنازل عن أبسط مبادئ دينها..
هبت جالسة على الفراش وقد قررت أمرا،فخرجت إلى والديها اللذين كانا يشاهدان التلفاز معا..
- أبي..أنا لن أتزوج من (فارس) !!
* * *
دخلت فتاة زرقاء العينين إلى البيت بصحبة إحدى صديقاتها..
- أمي..ستبيت عندنا (إيكاترينا) هذه الليلة
جاء صوت الأم من المطبخ وهي تقول:
- مرحبا (إيكاترينا)
- مرحبا يا خالة
خرج (إيفان) من الحمام وهو يجفف شعره بالمنشفة وقال فور أن رأى الفتاتين:
- أهلا (فاليريا) .. أهلا (إيكاترينا) ..كيف حال (أليكسي) ؟
- بخير..
وأردفت وهي لا ترفع عينيها عنه:
- وأنت كيف حالك؟
ابتسم وقال:
- بخير يا صغيرتي
بدا الضيق على وجهها وقالت:
- لا تقل صغيرتي
قال (إيفان) ضاحكا:
- لقد كنت أوصلك أنت و (فاليريا) إلى المدرسة وأنت صغيرة..ومن حينها وأنا لا أراك إلا كذلك
قبل أن تتكلم دفعتها (فاليريا) إلى الغرفة وهي تقول:
- كفي عن الثرثرة..لا نريد أن نضيع الوقت فلدينا الكثير من الدروس
دخلت الفتاتان إلى الغرفة لتقول (إيكاترينا) في هيام:
- ألن يلتفت إليّ (إيفان) أبدا؟ ..آه لو تعلم يا ..
قاطعتها (فاليريا) ضاحكة:
- اتركيه وشأنه فقد أخبرك صراحة أنه يراك طفلة..
وأردفت بمكر:
- ألا يعجبك (فلاديمير) ؟
رفعت (إيكاترينا) أحد حاجبيها باستنكار وقالت:
- (فلاديمير) إنسان معقد
ضربتها (فاليريا) بكتاب وهي تقول:
- انتبهي لما تقولين ولا تنسي أنه أخي
في الخارج فتح (إيفان) التلفاز وراح يتنقل بين قنواته،لكن عقله لم يكن معه..كان مع تلك الفتاة الشرقية ذات العينين السوداوين..كيف انجذب إليها ولماذا؟ ..لا يدري..منذ أن رآها أول مرة أحس كم هي رقيقة،وعندما أعطاها زجاجة المياه وجدها فتاة تلقائية لا تعرف المكر..
كان يحيره أنها تحب ذلك الشاب المدعو (سامح) ..كان يرى في عينيه خبثا ودهاء لا تراه (شيماء) لكونها غارقة في حبه الذي لم يكن يبادلها إياه،والدليل أنه صفعها أمام المارة دون ذرة خجل أو حياء..كيف يتصرف الإنسان مع من يحب بهذه الطريقة؟ هو لم يكن يحبها وإنما كان يحب أن يملكها لا أكثر..
كان يتذكرها وهم ذاهبون لعرض الصوت والضوء وهي ترتدي ذلك الثوب الصيفي البسيط..لا يزال يشعر بعبير عطرها حتى الآن،وكانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها عينيها المليئتين بالحيوية واللتين أسرتاه فور أن التقتا بعينيه..لكن عندما وجدها في حديقة الفندق لم ير البريق الذي كان يملأ عينيها من قبل..
تبا لك يا (سامح) ..
* * *
نشب شجار بين (حنان) ووالديها لقرارها الذي اتخذته فجأة..
- ماذا سيقول الناس الآن؟ خطبتك لم يمر عليها أكثر من أسبوعين
نظرت (حنان) إلى أمها بضيق وقالت:
- أهذا كل ما يهمك؟ كلام الناس؟ ..
وأردفت بعصبية:
- يا أمي الناس تتكلم في كل الأحوال،ولن ينفعني الناس إذا عشت حياة تعيسة مع شخص لا تتفق أفكاره مع أفكاري
قال أبوها وهو يمسك بذراعها بقوة آلمتها:
- أخبريني من الذي يحرضك على هذه التصرفات؟ ..منذ أن وضعت تلك الخرقة على رأسك فقدت عقلك..
وهزها بقوة وهو يواصل صياحه:
- أخبريني من الذي أدخل في رأسك هذه الأفكار؟
جذبت (حنان) ذراعها من قبضة أبيها بالقوة وقالت بإصرار:
- أنت تعرفني يا أبي،وتعرف أنه ليس هناك شخص قادر على إقناعي بما لا أريد..حجابي لم يؤثر على عقلي كما تظن،وقراري هذا لن أتراجع فيه..
ودخلت إلى غرفتها ثم ارتمت على فراشها تبكي بمرارة..لقد ازدادت إصرارا على ترك (فارس) .. فهي خائفة من أن تضعف بسبب تأثير المحيطين بها..والديها ومعارفها،و (فارس) أيضا..
في اليوم التالي ذهبت مع (شيماء) إلى الطبيبة وقلبها يدق كالطبل..كانت تحمل في يدها ملف الأشعة والتقرير وهي تشعر أنها تحمل طاعونا سيفتك بها في أية لحظة..
انحدرت دمعة على وجهها لكنها مسحتها بسرعة قبل أن تسمع اسمها لتدخل إلى حجرة الكشف..
- أهلا آنسة (حنان)
كانت طبيبة في الخمسينيات تقريبا..طلبت من الفتاتين أن تجلسا وسألت (حنان) عن سبب قدومها، فشرحت لها الأمر بشفتين مرتجفتين،وأعطتها الملف..
هدأتها الطبيبة وهي تنظر في التقرير،ثم عقدت حاجبيها وقالت:
- آنسة (حنان) ..كم عمرك؟!
- ستة وعشرون
ثم نظرت إلى صديقتها في قلق..
- التقرير مكتوب فيه أن عمرك ثمانية وأربعون عاما!
اختطفت (حنان) الورقة من يدها لترى بيعينيها..فعلا كان العمر ثمانية وأربعون،كما أن الاسم المكتوب لم يكن اسمها..
- هذا ليس اسمي أيضا..الاسم الثالث مختلف
ابتسمت الطبيبة وقالت:
- لقد أخذت الملف الخاطئ وعليه فقد بنيت مخاوف لا أساس لها
خرت (حنان) ساجدة على الأرض وهي تبكي فرحا..أخذت تحمد الله وتشكره ودموعها تبلل أرضية الحجرة،فأمسكتها (شيماء) من يدها ورفعتها من على الأرض واحتضنتها وهي تبكي بدورها..فقالت الطبيبة:
- لكني سأطلب منك فحصا آخر للتأكد،وأنا أتوقع أنه سيكون سلبيا
ابتعدت (حنان) عن صديقتها وأومأت برأسها وهي تمسح دموعها..وبالفعل ذهبت لعمل الفحص لتجد النتيجة سلبية كما توقعت الطبيبة..
ركبت الفتاتان سيارة (شيماء) ولسان (حنان) لا يتوقف عن قول الحمد لله..
- سنحتفل اليوم بهذه المناسبة
قالت (شيماء) هذه العبارة وهي تمسح دموعها وتنعطف في الاتجاه العكسي للذهاب إلى أحد المطاعم..وعندما عادت (حنان) إلى البيت احتضنت أمها وأباها بشدة وهي تكاد تطير فرحا،ثم أخبرتهما بما حدث..
- لماذا لم تخبرينا بهذا الأمر؟
كانت (سهام) تمسح دموعها وهي تقول هذه العبارة وهي لا تتخيل أنها كانت ستفقد ابنتها..
- لم أرد أن تقلقا قبل أن أتأكد من الأمر..وسأذهب غدا إلى الطبيبة لإعطائها التقرير ومعرفة إن كانت هناك خطوة أخرى
لكن الطبيبة طمأنتها وأكدت لها أن هذه الكتلة الصغيرة هي نسيج ليفي عادي لا خوف منه،ولكن بإمكانها أن تجري الفحص مرة كل عامين للاطمئنان لا أكثر..
* * *
لم يجد والدي (حنان) بدا من تنفيذ رغبتها في الانفصال عن (فارس) ،والذي كان يشعر بالإهانة بسبب رفض (حنان) له..
بعد يومين كان يكلم صديقه (مصطفى) في الهاتف وهو يصيح بعصبية:
- لقد خسرت تلك الفتاة الحمقاء كثيرا..فهي لن تجد من يقبل بها وبأفكارها المتخلفة إلا إن كان مثلها
ضحك مصطفى وقال:
" يكفي يا (فارس) ..أنت لم تتوقف عن الحديث عنها لمدة نصف ساعة كاملة "
ثم أردف بمكر:
" يبدوا أنك وقعت في غرامها في تلك المدة القصيرة "
صاح فيه (فارس) :
- كف عن هذه الحماقة..لقد خطبتها لأنني توقعت أن لها عقلية متفتحة،فإذا بي أجد ..
قاطعه (مصطفى) :
" حسنا يا (فارس) هذا يكفي..لقد شوهت صورة الفتاة تماما..ستنساها وتخطب من هي خير منها.. "
وتابع بحذر:
" لقد كان لها صديقة أظن أن اسمها (شيماء) أليس كذلك؟ "
- أظن ذلك..لكن لم تسأل؟
" لا تخف..لن أقترح عليك أن تخطبها،لكني أريد أن أتعرف عليها "
- لماذا؟
" وما شأنك أنت؟ إن كنت تعرف طريقها أخبرني،وإن لم تعرف فسأبحث بنفسي ولا حاجة لي بمساعدتك"
قال (فارس) بسخرية:
- هل أغرمت أنت أيضا بها
" لا تكن أحمقا..أنا لست من هذا النوع وأنت تعرف..أريد فقط أن أقضي وقتا مرحا مع تلك الفتاة "
- حسنا..هي تعمل في نفس الشركة التي تعمل بها (حنان) ،لكن لا تطلب مني شيئا آخر
يتبع ...........