لم تنتبه (شيماء) لذلك الشخص الذي كان يتابعها في المتحف أينما ذهبت..وفي إحدى القاعات وبينما السائحين يشاهدون بعض البرديات القديمة اتجه إليها ذلك الشخص..
- آنسة (شيماء)
التفتت (شيماء) لترى شابا يمد يده لمصافحتها،صافحته وهي ترسم على وجهها ابتسامة وقد ظنت أنه سيسألها عن شيء في المتحف..
- هل من خدمة أؤديها لك؟
حدقت به للحظات ثم قالت:
- أنت صديق المهندس (فارس) أليس كذلك؟
اتسعت ابتسامته وقال:
- جيد أنك تذكرتني
رفعت أحد حاجبيها وقالت باستنكار:
- وما الذي تريده؟ هل هو الذي أرسلك؟
رفع يديه مبرئا نفسه وهو يقول:
- لا..لا.. (فارس) لا يعلم أنني هنا
مطت (شيماء) شفتيها وقالت:
- أرجو المعذرة فلدي عمل
وتحركت لتكمل الجولة فتبعها وهو يقول:
- ألن تسأليني عن سبب وجودي هنا؟
التفتت (شيماء) إليه وقالت:
- يا أستاذ..
قاطعها وهو يرسم ابتسامة على شفتيه:
- (مصطفى)
زفرت في ضيق وقالت:
- أرجوك لا تعطلني أكثر من هذا
- سأنتظرك إذن
عدلت نظاراتها الطبية وهي تنظر له بضيق ثم غادرته..لكنه لم يتركها..ظل يتابعها حتى انتهت من جولتها ثم لحق بها إلى خارج المتحف..
- أعرف أنك قد تشعرين بالحرج من الحديث معي لأنني صديق (فارس) ..لكن صدقيني هو لا يعرف ذلك،كما أنني أردت أن أتعرف عليك من قبل لكن لم تتح لي الفرصة
كانت (شيماء) قد وضعت نظاراتها الشمسية على عينيها وراحت تتفحصه من خلف عدساتها..إنه يكذب ولا شك،ويبدوا أنه يريد أن يضيع وقته في اللهو معها..
- اسمع يا أستاذ (مصطفى) ..كونك صديق (فارس) فهذا وحده يفقدني الرغبة في الحديث معك،كما أنني لست من الطراز الذي تحب
- وما أدراك أنك لست من الطراز الذي أحب؟
لم ينقذها من موقفها إلا قدوم (حنان) فقالت:
- (حنان) قادمة وأعتقد أنه من الأفضل لك أن تذهب من هنا كي لا تسبب لها الإزعاج
اقتربت (حنان) وهي تراه يغادر فسألت صديقتها عنه..
- إنه صديق (فارس) ،ويبدوا أنه يشعر بالملل فوجدني سبيلا للتغلب على ملله
بدا الضيق على وجه (حنان) وهي تقول:
- لا تستمعي له،فلا بد أنه مثل صديقه
عقبت (شيماء) وهي تخرج زجاجة مياه من حقيبتها:
- إنه أسوأ..
وانتبهت أن الزجاجة فارغة،فسارعت صديقتها بإعطائها زجاجتها..
ابتسمت (شيماء) وعلت وجهها حمرة خفيفة؛فقد تذكرت ما حدث مع (إيفان) في أول مرة تلتقيه..
- أتعرفين..لقد ذكرتني بـ (إيفان)
قالت (حنان) بتساؤل:
- ومن يكون (إيفان) هذا؟
- إنه صديقي الروسي الذي أخبرتك عنه قبلا..
هزت (حنان) رأسها عندما تذكرت ذلك فقالت (شيماء) :
- كانت زجاجتي فارغة فأسرع بإعطائي زجاجته مثلما فعلت أنت الآن
ضحكت (حنان) وقالت:
- لكن النسخة المصرية أجمل بالتأكيد
ضحكت (شيماء) لدعابة صديقتها وقد شعرت برغبة في الحديث معه..أحست أنه أصبح شيئا مهما في حياتها..تشعر بالرحة عندما تسمع صوته،وبالأمان عندما ترى عينيه..
تنهدت وأنهت عملها لتعود للبيت وهي تشعر برغبة ملحة في الاتصال به..
فتحت حاسوبها وهي تبدل ملابسها ثم أرسلت له رسالة وخرجت لتناول طعام الغداء..وبعده تفقدت صندوق بريدها فلم تجد شيئا..فتحت برنامج المحادثة ولم تجد شيئا أيضا..أصابها بعض الإحباط لكنها تركت البرنامج مفتوحا وتركت له رسالة قصيرة..
* * *
كانت (فاليريا) و (إيكاترينا) تغنيان وهما في مقعد السيارة الخلفي،بينما يقود (إيفان) وبجواره (أليكسي) أخو (إيكاترينا) ..
- هذا يكفي فقد سببتما لنا الصداع
كان هذا (أليكسي) فقالت (إيكاترينا) :
- نحن ذاهبون إلى حفل عيد ميلاد وقد نغني هناك،فاعتبر أن هذا تدريبا
هز (أليكسي) رأسه ثم قال موجها كلامه لـ (إيفان) :
- لن تكبر هذه الفتاة أبدا
رد (إيفان) بمكر:
- لقد كبرت يا صديقي بالفعل،وسترى بنفسك تهافت الشباب عليها عندما نذهب إلى الحفل
كان يختلس النظر إلى (إيكاترينا) في مرآة السيارة ليرى ردة فعلها،فقالت مستنكرة:
- ألم تقل لي من قبل أنني لا زلت صغيرة؟ ..أم أنك تحرف الكلام على حسب المواقف؟
انفجرت (فاليريا) في الضحك فضربتها صديقتها ليقول (إيفان) ضاحكا هو الآخر:
- لقد أردت أن أثبت لك أنك لا تزالين صغيرة،فكلمة واحدة تجعلك تصرخين كالأطفال
لم يعجبها الكلام فجلست صامتة حتى وصلوا إلى أحد البيوت،والذي كان مضاءا من الخارج بشكل مبهج..فدخلوا إلى المنزل الذي كان صاخبا وقد امتلأ بالبنات والفتيان الذين لم يتجاوزوا العشرين إلا بقليل..
سلم الأربعة على بعض الشباب والفتيات ثم انخرطت الفتاتان في حديث مع بعض الأصدقاء..وكانت هناك بعض الفتيات يحاولن تجاذب الحديث مع (إيفان) وصديقه،فانسحب (إيفان) بهدوء وخرج إلى حديقة البيت..
ماذا تفعل (شيماء) الآن يا ترى؟ ..لقد مر وقت طويل على آخر مكالمة لهما..هل عادت إلى خطيبها ولهذا انشغلت عنه؟ ..
هز رأسه في ضيق عندما تذكر (سامح) ..
وفي طريق العودة لم يكف عن التفكير فيها وهو ويشعر بالقلق لغيابها طيلة تلك المدة..ولام نفسه لأنه لم يرسل لها رسالة واحدة للاطمئنان عليها،فقرر أنه سيكلمها فور أن يعود..
لكن (شيماء) كانت قد أصيبت بخيبة أمل عندما لم تجد ردا منه..
تنهدت وقامت بتبديل ثيابها لتستعد للنوم حين سمعت صوت الرسالة القصيرة..
لم تكمل ماكانت تفعل وهرعت إلى الحاسوب لترى رسالته يسألها فيها إن كانت لا تزال مستيقظة.. فردت بالإيجاب ثم وافقت على طلب المكالمة،لكنها وفي اللحظة الأخيرة انتبهت أنها لم تكمل ارتداء ثيابها فقفزت من أمام الشاشة بسرعة ثم عادت بعد أن ارتدت ثيابها..
" كيف حالك؟ ..لقد كنت قلقا عليك طوال تلك المدة "
ابتسمت في سرور وقالت:
- آسفة لكن حدثت أمور كثيرة منعتني من التواصل معك
بدا القلق على وجهه وقال بحذر:
" هل لخطيبك السابق يد في تلك الأمور؟ "
- لا..لكنها أمور تخص إحدى صديقاتي..
ثم أردفت:
- كما أن (سامح) لم يعد له وجود في حياتي على الإطلاق
تنهد بارتياح وتابعا الحديث لمدة ساعة كاملة لم يشعر بها أحدهما..
* * *
لم يتوقف (مصطفى) عن محاولاته للتقرب من (شيماء) مما جعلها عصبية في الآونة الأخيرة..
- لا أدري ما الذي يريده ذلك السمج؟ ..أريده أن يعرف أنني لا أطيق رؤية وجهه لكنه لا يفهم
مطت (حنان) شفتيها في ضيق وقالت:
- إنه عنيد..يريد أن يحصل عليك بأية وسيلة،ولا يريد أن يكون هو الطرف الخاسر في الموضوع
لم تعلق (شيماء) وحملت حقيبتها استعدادا للعودة إلى البيت..
وبعد أيام كانت تجلس مع (نهى) حين جاء (مصطفى) ليسلم عليها..زفرت في ضيق ولم تسلم عليه، فجذب كرسيا ليجلس معهما لتنظر له بتعجب..
كانت (نهى) هي الأخرى متعجبة مما يحدث لكنه قام بتعريف نفسه وانخرط معها في الحديث..وبعد دقائق جاءت صديقة ثالثة لهما لينظر إليها (مصطفى) مبهورا..
كانت فتاة جميلة فلم يرفع عينيه عنها طيلة الجلسة،كما أنها كانت تضحك بدلال وتضرب كفها بكفه وهم يلقون النكات..وبدا لـ (شيماء) أن (مصطفى) يتجاوز أكثر مع صديقتها ليضايقها..فهزت رأسها مشفقة عليه..ثم انتهت الجلسة بأن تبادل (مصطفى) وتلك الفتاة أرقام الهواتف وهو ينظر لـ (شيماء) بانتصار..
وروت (شيماء) ما حدث لـ (حنان) فضربت كفا بكف وهي تقول:
- إنه مجنون بالتأكيد..
ثم تابعت وهي تضحك:
- لكن مجيء (دينا) خلصك من ذلك الشخص للأبد
ضحكت (شيماء) بدورها وهي تقول:
- لم تري نظراته لي..كان يظن أنني سأصاب بالجنون عندما أراه مع أخرى
- إنه يثأر لكرامته لا أكثر..دعك منه فهو شخص تافه
وأخيرا شعرت (شيماء) بالسلام والراحة من ملاحقة (مصطفى) لها،وبدأ مزاجها يتحسن..رغم أنها كانت تراه بعض الأحيان وهو يتعمد الظهور أمامها مع (دينا) ..
ومر الوقت وبدأ فصل الصيف ليخبرها (إيفان) أنه قد قرر قضاء أسبوع في مصر كما أخبرها من قبل..
- هذا جيد
كانت تتحدث والسعادة تغمرها،فقال:
" لكني لن آتي للقاهرة "
تغيرت ملامحها وقالت:
- لماذا؟
" لأنني سأذهب إلى الغردقة.. "
امتقع وجهها وتذكرت ما حدث معها في آخر مرة مرة ذهبت إلى هناك..
" ما بك؟ هل هناك شيء ما؟ "
هزت رأسها وقالت وهي تحاول رسم البهجة على وجهها مرة أخرى:
- لا شيء..
ثم تابعت:
- أنا سأذهب إلى هناك أيضا مع عائلتي فلدي إجازة سنوية لمدة أسبوع
" متى؟ "
- في منتصف يوليو
" إذن أخبريني في أي يوم لأرتب حجز طائرتي "
نظرت له غير مصدقة..سيرتب أموره لأجلها؟! ..تسارعت ضربات قلبها وسرت رجفة لذيذة في جسدها جعلتها تبتسم وقد احمرت وجنتاها قليلا..
* * *
- كنت أعرف أنكِ لن تأتي هذه المرة أيضا
قالت (حنان) :
- بإمكاني الذهاب لكن ليس إلى الأماكن التي تذهبين إليها
تركت (شيماء) الثياب التي ترتبها في الحقيبة ووضعت يديها على خصرها وهي تقول وقد ضيقت عينيها:
- ماذا تعنين بكلامك هذا؟
ضحكت (حنان) وقالت:
- أعني الأماكن الصاخبة التي تحبينها
نظرت لها (شيماء) في شك فقالت (حنان) وهي لا تزال تضحك:
- لا تسيئي الظن بي
رمتها (شيماء) بقميص لها وتابعت ترتيب حقيبتها..
وفي الموعد المحدد سافرت مع أمها وخالها وزوجته وخالتها وزوجها وأبنائهم جميعا..وبعد أن استقروا في بيتهم في الغردقة كانت (شيماء) تنتظر مكالمة (إيفان) الذي أعطته رقم هاتفها من قبل كي يكلمها فور أن يصل..لكنه لم يتصل حتى اقترب المساء فشعرت بالقلق..
وقبيل منتصف الليل رن هاتفها وهي تجلس في شرفة البيت مع العائلة فنظرت إلى شاشته لتجد رقما غير مسجل..
اضطرب قلبها ودخلت إلى البيت ثم ردت..
" لقد وصلت إلى الغردقة منذ ساعة تقريبا "
كان صوته يكفيها لتشعر بالاطمئنان..
- حمدا لله على سلامتك
" كنت أريد أن أراك اليوم لكن الوقت قد تأخر "
ساد بينهما صمت لبعض الوقت،قطعته (شيماء) قائلة:
- إذن أراك غدا صباحا
ووصفت له أحد المقاهي ليلتقيا عندها..
وقفت أمام المقهى تفرك يديها كعادتها عندما ترتبك وهي تنظر يمينا وشمالا تنتظر قدومه..وأخيرا ظهر على أول الشارع،فغزت ابتسامة شفتيها وراحت تلوح له كي يراها..
- انتظرتِ طويلا؟
كان يمد يده لها فصافحته وهي تقول:
- لا..لقد جئت في موعدك تماما
كانت تتأمله عبر عدسات نظاراتها الشمسية وهي تشعر أنها تراه لأول مرة،خاصة عينيه..كانت تشعر أنها تنظر إلى البحر من خلالهما..
انتبهت من شرودها وقالت أخيرا:
- تعال معي كي أعرفك بعائلتي
وصلا إلى الفيلا أخيرا ودخلت لتجد الجميع يحتسون الشاي قبل الذهاب إلى البحر..فحثته على الدخول وقامت بتعريفه لهم..تبادلوا التحية معه ثم قالت لهم أنهما سيسبقانهم إلى البحر..
أمضيا وقتا مرحا معا،ثم انضم لهما بنت خالتها وأبناء خالها وانخرطوا في اللعب جميعا..وبعد أن عادوا أصرت والدة (شيماء) أن يتناول غداءه معهم من باب حسن الضيافة..
وقاموا بشي السمك في حديقة الفيلا وهم يتبادلون الأحاديث المرحة..وفي المساء عرض (إيفان) على (شيماء) التمشية قليلا على شاطئ البحر..
- البحر يبدوا جميلا في المساء..
أومأت (شيماء) برأسها وهي تنظر للبحر وهمهمت أن نعم..نظر إليها ثم عاود النظر أمامه وقال:
- خاصة عندما تستلقين على الرمال وتنظري إلى النجوم
هزت رأسها مرة أخرى وقالت:
- في صغري كنت أحب أن أتطلع إلى السماء وأحاول عد النجوم كنوع من التحدي لابن خالي،لكن محاولتي كانت تبوء بالفشل
ضحك (إيفان) فاجتاحت جسدها رجفة خفيفة،فشدت وشاحها الصيفي على جسدها جيدا..
- أنا كنت أحاول ربط بعض النجوم بخط وهمي لرسم صورة خيالية،وكنت أتشاجر مع أختي الصغرى لأنها لا ترى الشكل الذي أتخيله أنا
التفتت إليه وقالت في دهشة:
- هل لديك أخت؟
أومأ برأسه وقال:
- أخت وأخ أيضا.. (فاليريا) و (فلاديمير)
شعرت بغصة في حلقها وقالت:
- رغم أن لي صديقة مقربة منذ الصغر،لكني كنت أتمنى أن يكون لي أخت،فعندما كان يأتي المساء كنت أنكمش على نفسي في فراشي خائفة من الظلام،لهذا كنت أطلب من والدة صديقتي أن تتركها لتبيت عندنا،لكن هذا لم يكن ممكنا كل يوم بالطبع
سكتت قليلا لتشعر به يمسك بكفها ويقول:
- لكنك لست وحدك الآن
التفتت إليه لتجده ينظر إليها مباشرة..
أشاحت بوجهها عنه وقد شعرت بسخونة في وجنتيها..وارتجفت كفيها بين أنامله،فسحبتها بهدوء وظلا صامتين لبعض الوقت..فقطع (إيفان) الصمت وقال ليزيل خجلها:
- ما رأيك لو عاودنا هواياتنا القديمة؟
ابتسمت على الرغم منها وقالت:
- لا بأس..
ثم تابعت في مرح:
- وسأقوم بعد النجوم كلها
ضحك (إيفان) ثم استلقى على الرمال واستلقت (شيماء) بجواره وراحا يشيران إلى النجوم..وهما يتجادلان ويضحكان..
..........يتبع