قصة دموع فوق الثلوج الفصل الرابع عشر
خرجت (شيماء) من الماء وراحت تجفف جسدها بالمنشفة ثم جلست تحت إحدى المظلات ووضعت نظاراتها الشمسية وهي تنتظر عودة (إيفان) الذي كان يسبح مع ابن خالها..
عاد (إيفان) أخيرا وقد بدا عليه التوتر..
- ما بك؟ هل أنت بخير؟
أومأ (إيفان) برأسه فقالت:
- سنقيم مباراة للكرة الطائرة..وأريدك أن تسحق الفريق الآخر
ضحك وقال:
- وفي أي الفريقين ستكونين أنت كي أعد الخطة
ابتسمت وهي تقول:
- في فريقك بالطبع،فأنا لن أحتمل الخسارة أمامك
بدأت المباراة وكان لعب (إيفان) جيدا،لكنه فجأة شعر بثقل في صدره،واختلال في ضربات قلبه والذي كان صوت دقاته يصم أذنيه..ثم اهتزت الرؤية أمامه وسقط على الأرض..
هرعت إليه (شيماء) وقد أصابها الذعر،لتجد شفتيه قد بدأتا تصطبغان باللون الأزرق..اتسعت عيناها ذعرا وصاحت لطلب النجدة من المتجمعين حولها..
وفي المستشفى أفاق (إيفان) ليجد (شيماء) تجلس بجواره..وفور أن رأته يفتح عينيه مسحت دموعها بسرعة وقالت:
- الحمد لله أنك بخير..لقد كدت أموت من القلق عليك
ابتسم بوهن وقال:
- لا تقلقي..أنا السبب فيما حدث
تعجبت لقوله فقال مفسرا:
- أنا أعاني من مشكلة في القلب ونسيت أن أتناول أدويتي بالأمس،كما أنني نسيتها اليوم أيضا
- كيف تنسى شيئا مهما كهذا؟
- لقد تذكرت ذلك بعدما خرجت من الماء،وكنت قد نسيت الأدوية في الفندق
تنفست الصعداء وقالت:
- المهم أنك بخير الآن
راحت تنظر إلى وجهه الشاحب وهي تتذكر تلون شفتيه على الشاطئ..لقد كاد الرعب يقتلها من ذلك المشهد..
نقلت بصرها إلى كفه وبعد تردد مدت يدها لتربت على يده،فأدار رأسه إليها لتسحب يدها بسرعة وقد علت وجهها حمرة الخجل..
لم تفارقه حتى خرج من المستشفى في المساء،وكان معها (كريم) ابن خالها،وذهبوا جميعا إلى الفندق استجابة لرغبة (إيفان) ..
بعد أن عادت (شيماء) إلى الفيلا لم يغمض لها جفن..ترددت عدة مرات في الاتصال به خوفا من أن يكون قد نام فتوقظه..فأرسلت له رسالة تطمئن عليه وانتظرت..مرت ربع ساعة فأيقنت أنه قد نام،فاستعدت للنوم هي الأخرى..ونظرت إلى (نهال) لتجدها تغط في النوم،فتدثرت بغطائها وأغمضت عينيها لتسمع أزيز الهاتف..
قفزت من مكانها وأمسكت بالهاتف لتجد رسالة منه يخبرها أنه بخير،وأنه لا يزال مستيقظا..
نهضت من فراشها وخرجت إلى الشرفة وأغلقت الباب وراءها،لتجده يتصل بها..
" مساء الخير "
ردت بصوت أقرب للهمس:
- مساء الخير
" لم أستطع النوم..فقد أحسست باضطراب في قلبي مرة أخرى "
قالت بخوف:
- ألم تتناول دواءك؟
سكت قليلا فهي لم تفهم ما يرمي إليه..تنهد وقال:
" بلى ولكنه يحتاج بعض الوقت ليظهر تأثيره "
ظلا يتحدثان لدقائق أخرى ثم أوى كل منهما إلى فراشه..
اجتاح (إيفان) شعور بالراحة..لقد رأى القلق في عينيها وهو في المستشفى،وها هو يجد القلق في صوتها أيضا..لم تتركه كما فعلت (صوفيا) من قبل عندما عرفت بمرضه.. (شيماء) تحمل قلبا ذهبيا..هكذا قال لنفسه..
* * *
آخر يوم في إجازتها أمضته مع (إيفان) منذ الصباح الباكر..وبعد الغداء ذهبا معا إلى أحد البازارات..وتذكرت العقد الذي ابتاعه لها من قبل في الأقصر،وتذكرت أيضا تناثر أحجاره على الأرض بيد قاسية..
وعادوا بسرعة لأن موعد طيارتها قد اقترب..ودعت أهلها وذهبت مع (كريم) و (إيفان) إلى المطار..
- كنت أتمنى أن تطول إجازتي أكثر من هذا
كانت تحاول التماسك وهي تقول تلك الجملة..فعانقها وهو يقول:
- قد نلتقي قريبا
للوهلة الأولى ارتجف جسدها لكنها استسلمت في النهاية،وهي تقنع نفسها أن هذه طريقته في السلام مع أصدقائه فلا بأس..وعانقها (كريم) أيضا ثم ذهبت..ذهبت وهي تشعر بضيق شديد..
واستقبلتها (حنان) في المطار وعانقتها في شوق..
- لقد شعرت أنك غبت سنة كاملة وليس أسبوعا
ضحكت (شيماء) وركبت معها السيارة..فقالت (حنان) في مرح:
- هل جاء ذلك الروسي؟
- أجل
- قصي علي ما حدث إذن
كانتا قد وصلتا إلى بيت (حنان) فأوقفت الأخيرة السيارة والتفتت إلى (شيماء) وقالت:
- (شيماء) ..تصرفاتك تلك لم تكن محسوبة..انتبهي أكثر من ذلك
ارتبكت (شيماء) وقالت:
- لا تحملي الأمور أكثر مما تحتمل..إنه أجنبي ومعتاد على ذلك،كما أنني لم أفعل شيئا في الخفاء كي أخجل منه،لقد كان أهلي هناك يعرفون ما يجري..
نظرت لها (حنان) مليا وقالت:
- ليس كل ما يوافق عليه الأهل يكون صحيحا يا (شيماء)
لأول مرة تشعر (شيماء) بالتوتر وهي تتحدث مع صديقتها..فصمتت ولم تنبس ببنت شفة،ولم تقل (حنان) شيئا آخر..وصعدتا معا إلى بيت (حنان) لتسلم (شيماء) على (سهام) وتذهب لأخذ حمام دافئ..
فتحت المرش ووقفت تحته لينساب الماء مهدئا حدة توترها..لأول مرة تشعر أنها لم تحسن التصرف..لأول مرة تلوم نفسها على تصرفاتها العفوية..هل يمكن أن تكون (حنان) على حق؟ ..لكنها عادت وأقنعت نفسها أنها لم تفعل شيئا مريبا لأن أهلها لم ينتقدوا تصرفها..
خرجت من الحمام وقد قررت أنها لن تفتح الموضوع مرة أخرى..
وفي المساء خرجت إلى الشرفة واتصلت بـ (إيفان) ..
" كنت سأتصل بكِ حالا.. "
ابتسمت وقد علت وجهها حمرة خفيفة..
" لقد حزمت حقيبتي وسأذهب بعد ربع ساعة إلى المطار.. "
ظلت صامتة فقال:
" (شيماء) "
- نعم
خرج صوتها مختنقا ضعيفا،وسمع (إيفان) على الجانب الآخر صوت تنفسها غير المنتظم،فتزامنت دقات قلبه مع صوت أنفاسها وقد تأكد أنه لن يعاني مرارة الفراق وحده..
تكلم الصمت بينهما وقال الكثير مما لم يقو أحدهما على البوح به..وتسلل الدمع إلى عيني (شيماء) لكنها لم تسمح له بتجاوزهما..
" سأكلمك فور أن أصل إلى روسيا "
أخذت نفسا عميقا وقالت:
- سأنتظر مكالمتك..
ثم أردفت:
- انتبه لنفسك
لم تنم (شيماء) جيدا في تلك الليلة؛فقد استيقظت عدة مرات من نومها..
جلست على الفراش لتجد (حنان) قد نامت بجوارها،فقامت من الفراش بهدوء وخرجت إلى الشرفة ليداعب نسيم الصيف خصلات شعرها لتشعر بالهدوء بعض الشيء.. (إيفان) أخذ حيزا من حياتها بشكل أو بآخر،وازداد قربها منه في هذه الزيارة،خاصة عندما اقترب من حياتها العائلية..
قطع تفكيرها صوت رنين هاتفها،فدخلت إلى الغرفة بسرعة لتجد (حنان) قد أفاقت من نومها وقالت بخمول:
- من الذي يتصل في هذه الساعة؟
أخذت (شيماء) هاتفها بسرعة وخرجت إلى الشرفة وهي تقول:
- عودي إلى نومك يا (حنان)
نظرت إلى الشاشة لتجد رقما دوليا..
- آلو!
" صباح الخير..أرجو ألا أكون قد أيقظتك من نومك "
خفق قلبها بشدة وقالت:
- أنا لم أستطع النوم..كيف حالك؟
" لقد وصلت إلى موسكو قبل قليل،ولم أستطع الانتظار حتى أصل إلى سان بطرسبرغ "
- حمدا لله على السلامة..
ثم أردفت وعلى شفتيها ابتسامة:
- لم أتوقع أن تتصل بي
ضحك ضحكة اختلج لها قلبها وقال:
" مفاجأة أليس كذلك؟ "
- بالتأكيد..
سمعته يكلم أحدهم ثم يقول لها:
" سأركب الآن الحافلة المتجهة لسان بطرسبرغ،وسأعلمك حال وصولي للبيت"
بعد أن انتهت المكالمة ظلت في الشرفة تنظر إلى لا شيء وقد شردت بذهنها بعيدا..لم يكن (إيفان) وحده من أخذ حيزا في حياته،بل هي أيضا..أصبحت تمثل له شخصا مهما،صار يعاملها كـ...
اتسعت عيناها..
لا يمكن أن يكون ما تفكر به صحيحا..لقد كانت تقنع نفسها طيلة الوقت أنه يعاملها كصديقة مثل بقية أصدقائه،لكن الحقيقة ليست كذلك..
انتزعها من شرودها صوت جرس المنبه،ثم صوت أذان الفجر من المسجد القريب..
- (شيماء) ..ألا زلت مستيقظة؟
دخلت (شيماء) إلى الغرفة وقالت:
- استيقظت منذ نصف ساعة تقريبا
قالت (حنان) وهي تنهض من الفراش:
- هيا إذن كي نصلي الفجر
وذهبت إلى الحمام كي تتوضأ،ثم تبعتها (شيماء) وهي تشعر بالخجل لعدم انتظامها في صلاتها..
خرجت من الحمام لتجد (حنان) ترفع من سجودها،فظنت أنها تصلي الفجر فراحت تبحث في الغرفة عن حجاب لتلبسه،لتسمع صوت (حنان) بعد أن انتهت من الصلاة:
- أنا آسفة نسيت أن أخرج لك ثوب الصلاة
واتجهت إلى خزانتها لتخرج ثوب صلاة إضافي وأعطته لـ (شيماء) والتي كانت مرتبكة وهي تلبسه،فساعدتها صديقتها ووقفتا بجوار بعضهما البعض..
- ألم تصلي الفجر قبل قليل؟
- نعم..بل كنت أصلي سنة الفجر
وبدأت الفتاتان الصلاة..
اقشعر جسد (شيماء) عندما سمعت صوت (حنان) وهي تقرأ فاتحة الكتاب،وترقرقت الدموع في عينيها،لكنها سارعت بمسحها وهي تشعر بغصة في حلقها وثقل في صدرها وضيق وخجل..لكنها رغم ذلك لم تستطع التركيز جيدا في صلاتها..
وبعد انتهاء الصلاة قالت (شيماء) :
- هل تصلين الفجر يوميا في هذا الوقت؟
التفتت (حنان) إليها وقالت وهي تزن كلماتها:
- هذا هو موعد الفجر،وهو يمتد حتى قبيل الشروق..
صمتت (شيماء) وقد أحست (حنان) بحيرتها فقالت:
- حاولي أن تصلي الفجر في هذا الوقت ولا تأخريه يا (شيماء)
هزت (شيماء) رأسها ودخلت إلى فراشها لتنام بعد أن أنهكها السهر..
وبعد ساعتين أيقظتها (حنان) للذهاب إلى العمل،فقامت (شيماء) وهي تشعر بالنعاس..وعندما نظرت في الهاتف وجدت رسالة من (إيفان) ..
" لقد وصلت إلى سان بطرسبرغ..ويبدوا أن الشتاء قد حل في غير موعده؛فأنا لم أعد أشعر بالدفء الذي كنت أشعر به قبل أيام "
طار النعاس من عينيها وراح قلبها يخفق بعنف..تأكدت شكوكها..إنه لا يعاملها كصديقة..لكنها حاولت إقناع نفسها أنها مخطئة لمدة شهر كامل بعد سفره..حتى وصلتها رسالة جديدة..
يتبع ...........