بعد العاشرة والنصف مساء رن هاتف (حنان) ..كانت (شيماء) هي المتصلة..فور أن ردت (حنان) وقبل أن تلقي التحية سمعت (شيماء) تلهث وتتحدث بانفعال،لكنها لم تفهم منها حرفا واحدا..
- ما الأمر يا (شيماء) ؟ هل أنت بخير؟
كان صوت (شيماء) منخفضا ومرتجفا..
" (حنان) ..إنها نفس الفيلا التي رأيتها "
- عن أي شيء تتحدثين؟
" الفيلا التي رأيتها في ذلك الحلم "
اعتدلت (حنان) في مقعدها وقد استبد بها القلق وهي تقول:
- ما بها؟
* * *
ذهبت (شيماء) إلى الغردقة دون صديقتها ربما لأول مرة..لكنها فور أن وصلت إلى هناك نسيت كل شيء وراحت تمرح وتلعب مع أصدقائها..
وبعد الظهيرة ذهبوا لتناول الغداء في أحد المطاعم،واتخذ (سامح) و (شيماء) طاولة منفردة..لكن قبل عودة النادل بالطعام ذهب (سامح) إلى دورة المياه،وفور أن ذهب رن هاتفه وقد نسيه على الطاولة، فأمسكته (شيماء) لترى من المتصل لتفاجأ باسم لم تره من قبل..
داليا..
أصابتها صدمة وظلت تنظر للشاشة وقد توقف عقلها عن التفكير،لكن فور أن انتهى الاتصال وجدت نفسها لا إراديا تفتح صندوق الرسائل وتبحث بعينيها عن هذا الاسم..ووجدته..
قرأت إحدى الرسائل لتتغير ملامح وجهها للاشمئزاز..وراحت تتنقل بسرعة بين الرسائل فلم تجد إلا أقذر الكلمات المتبادلة بين (سامح) والمدعوة (داليا) ..
تحجرت الدموع في عينيها..
لا يا (شيماء) ..لا تبكي..يجب أن تكوني قوية..
أعادت (شيماء) الهاتف إلى مكانه وكأن شيئا لم يكن وقد أضمرت في نفسها أمرا..فأمسكت بهاتفها ووضعته على أذنها وكأنها تتحدث حتى عاد (سامح) ..
كانت ترسم على وجهها ابتسامة مصطنعة وهي تتظاهر بإنهاء المكالمة مع إحدى صديقاتها ثم قالت لـ (سامح) ببراءة:
- لقد رن هاتفك وأنت في دورة المياة
- من كان المتصل؟
- لا أدري فقد كنت مشغولة بمكالمة أخرى
أمسك هاتفه ورأى اسم المتصل ثم وضعه جانبا..وكانت هي تراقب تعبيرات وجهه،وللحظة رأت الارتباك يرتسم عليه لكنه عاد لطبيعته بسرعة..
بعد أن أنهوا طعامهم طلبت منه (شيماء) أن يذهبا إلى أحد المراكز التجارية القريبة لشراء هدية لـ (حنان) التي لم تأت معهم..
- بالمناسبة..لمَ لمْ تأت (حنان) معنا؟
- لديها أسباب خاصة تمنعها
ودخلا إلى المركز وراحت تتفقد البضاعة المعروضة في أحد المحال لكنها أمسكت بطنها فجأة وهي تتأوه..
- ما بك؟
تظاهرت بالألم وقالت:
- بطني آلمتني فجأة..يبدوا أن معدتي ليست على ما يرام ولم تتحمل السمك الذي أكلته
- لنعد إلى الفندق حتى تتحسني،ونشتري هدية (حنان) فيما بعد
أطاعته فورا وذهبت معه إلى الفندق..وفي المساء اعتذرت عن الذهاب معهم إلى النادي الليلي لأن بطنها لم تزل تؤلمها..
وفور أن نزلوا بدلت ثيابها بسرعة وذهبت خلفهم حتى وصلت إلى النادي والذي كان قريبا من البحر..ووقفت في مكان بعيد تراقب المدخل وهي تدعوا الله أن يخيب ظنها..لكن ما توقعته حدث بالفعل..فقد خرج (سامح) وحده وذهب إلى مكان ما..فتبعته (شيماء) من بعيد كي لا يلاحظها،وحمدت ربها أنه لم يركب سيارة أجرة لأنها لن تستطيع ملاحقته في تلك الحالة..
وجدته يمسك بهاتفه ويرد على شخص ما،وبالطبع لم تسمع حرفا مما قال،وظلت خلفه حتى اقتربا من من منطقة سكنية وبدأ المكان يخلوا من المارة..وارتفعت دقات قلبها خوفا من أن يلاحظها هو..
وفجأة..وجدت فتاة تقف بعيدا وتلوح له..فتوقفت (شيماء) عن السير كي لا تلاحظها تلك الفتاة، وانتظرت لترى ما سيحدث..فرأت (سامح) يسلم عليها ويسير معها لمكان ما..فعاودت السير وراءهما وهي تشعر أنهما سيسمعان دقات قلبها العالية..
ظلت وراءهما حتى وصلا إلى بناية من طابق واحد ودخلا إليها..
انتظرت (شيماء) قليلا ثم اقتربت من المكان لتصاب بالصدمة؛فقد كانت تلك البناية هي الفيلا ذاتها التي رأتها في حلمها قبل بضعة أشهر..
تساقطت دموعها رغما عنها وهي لا تصدق ما ترى..وللحظة شل عقلها وجسدها،لكنها مسحت دموعها بيد مرتجفة وأمسكت بهاتفها واتصلت بـ (حنان) ،وفور أن ردت الفتاة راحت (شيماء) تتكلم ودموعها تتساقط دون توقف..كانت تتكلم بانفعال وهي تلهث وتحاول خفض صوتها..
" ما الأمر يا (شيماء) ؟ هل أنت بخير؟ "
كان صوت (شيماء) منخفضا ومرتجفا،تماما كما يرتجف جسدها بقوة..
- (حنان) ..إنها نفس الفيلا التي رأيتها
" عن أي شيء تتحدثين؟ "
- الفيلا التي رأيتها في ذلك الحلم
اعتدلت (حنان) في مقعدها وقد استبد بها القلق وهي تقول:
- ما بها؟
- رأيت (سامح) يدخل إليها بصحبة فتاة ما،وأظن أنها (داليا)
راح قلب (حنان) يخفق بعنف وهي تقول محاولة السيطرة على صوتها:
- من تكون (داليا) تلك؟
شرحت (شيماء) الأمر لـ (حنان) منذ أن كانت مع (سامح) في المطعم وحتى وصلت إلى هذا المكان،و (حنان) تستمع وقد انتقل ارتجاف صوت صديقتها إليها هي الأخرى ولم تجد ما تقول وقد اضطرب عقلها..
- سأطرق الباب وأعرف بنفسي ما يحدث
- لا يا مجنونة،لا تتهوري..
لكن (شيماء) لم تترك لها الفرصة لتكمل كلامها وأنهت المكالمة ثم أغلقت الهاتف نهائيا..
اقتربت من البوابة ودفعتها وقد كانت مفتوحة،ودخلت إلى حديقة صغيرة ثم صعدت بعض الدرجات ووقفت أمام الباب وقلبها يكاد ينخلع من مكانه..
مدت يدها التي لم تتوقف عن الارتجاف وكادت أن تضغط على الجرس ثم ترددت للحظات،لكنها قررت في النهاية وضغطت الزر..
انتظرت لدقيقة أو اثنتين لكنها كانت كالدهر بالنسبة لها،وفتح الباب لترى وجه (سامح) والذي امتقع عندما رآها..
- ماذا تفعلين هنا؟
وقفت كالتمثال أمامه وسمعت صوت باب يفتح ثم يغلق وصوت فتاة تقول:
- هل وصل عامل المطعم يا (سامح) ؟
تجمد (سامح) هو الآخر وبدا أن الزمن قد توقف وهما ينظران إلى بعضهما البعض..نظرات صدمة وذهول..
ظهرت فتاة من خلف (سامح) وكادت أن تتكلم،لكنها عندما رأت (شيماء) توقفت الكلمات في حلقها..
وزاد ذهول (شيماء) عندما رأت (داليا) ..كيف لم تفكر أنها هي؟ ..كيف لم تفكر في تلك الفتاة التي كانت تعمل معهم قبل عام ثم تركت الشركة لسفرها مع والديها إلى إحدى الدول العربية؟ ..كيف لم تتذكر الفتاة التي كانت تتعطل سيارتها عدة مرات فتطلب من (سامح) أن يوصلها إلى بيتها لأنها تسكن قريبا منه؟ ..وكيف أن (شيماء) لم تكن تمانع خاصة وأن (داليا) كانت مخطوبة في ذلك الوقت؟ ..
وتذكرت الرسائل التي قرأتها ظهر اليوم في هاتف (سامح) لتشعر بالاشمئزاز..فأدارت ظهرها إليهم وغادرت المكان..كانت تمشي بخطوات سريعة ثم راحت تركض عندما سمعت (سامح) وهو يناديها..
اقترب منها وأمسك بذراعها فدفعته بقوة وهي تصيح فيه:
- ابتعد عني أيها الخائن الكذاب..
كاد يقول شيئا لكنها قاطعته:
- ولا تحاول تبرير أي شيء..فمهما قلت لن أصدقك مرة أخرى فقد أفقت من غيبوبتي أخيرا
صاح فيها بدوره وقال:
- هل كنت تراقبينني يا (شيماء) ؟
قالت متهكمة:
- بدلا من أن تخجل من نفسك تحاول إلقاء اللوم عليّ
- لا أحاول إلقاء اللوم على أحد..لكنك لتكشفي خطئي ارتكبت خطئا بدورك
- خطأ؟ أنا لم أرتكب خطئا لأنني رأيت اسم تلك الحقيرة على هاتفك اليوم عندما اتصلت بك،ولم أكن أتجسس عليك
- وماذا ستفعلين الآن؟ زواجنا بعد أسابيع وإن تراجعت فسيتكلم الناس في حقك وأنت تعلمين ذلك..
نظرت له بذهول..لم تكن تتخيل أنه بتلك الوقاحة..
- من الأفضل أن تسكتي لأن بإمكاني أن أجعل الجميع يصدقونني ويكذبونك
تسمرت للحظات وهي تحاول استيعاب ما قال..ثم أدارت له ظهرها وتركته..عادت إلى الفندق ووضعت ثيابها في الحقيبة كيفما اتفق ثم خرجت وأوقفت سيارة أجرة وطلبت من سائقها أن يذهب بها إلى المطار..
كان الوقت قد قارب على منتصف الليل عندما وصلت..ولم تجد أمامها سوى طائرة السادسة والنصف صباحا،ولحسن حظها كان هناك مكانين فقط،فحجزت أحدهما وذهبت إلى أحد المقاهي في المطار..أخرجت هاتفها وفتحته ثم اتصلت بـ (حنان) ..
" أين أنت يا (شيماء) ؟.. لقد كدت أموت من الخوف عليك "
لم تجبها (شيماء) سوى بجملة واحدة:
- (حنان) ..انتظريني في المطار في الثامنة صباحا
* * *
مرت الساعات الست على (شيماء) بطيئة ثقيلة وكأنها ست سنوات،وكانت قد أغلقت هاتفها بعد مكالمة (حنان) ..
في السابعة والنصف كانت الطائرة قد هبطت في مطار القاهرة..وخرجت (شيماء) لتجد (حنان) في انتظارها والخوف باد على وجهها..
- (شيماء) ..كيف حالك؟ ..
قاطعتها (شيماء) قائلة:
- سنتحدث في السيارة
وفي طريق العودة أخبرتها (شيماء) بكل ما حدث،وحنان تستمع وهي تكاد لا تصدق أذنيها..
- لا يمكن أن يكون بهذه الوقاحة..لكن ماذا ستفعلين؟ هل ستوافقين على إتمام الزواج؟
ردت (شيماء) بانفعال:
- بالطبع لن أوافق،وعندما يعود إلى القاهرة سينتهي كل شيء
قالت (حنان) :
- اسمعي يا (شيماء) ..يجب أن تخبري والدتك وعمك بما حدث؛فعمك شديد بعض الشيء وهو الوحيد الذي يستطيع إيقافه عند حده
ساد الصمت بينهما حتى وصلتا إلى بيت (شيماء) ..وحكت لأمها كل ما حدث،وبعد أن انتهت أعادت (حنان) اقتراحها بإخبار الدكتور (محمود) بالأمر كي ينتهي كل شيء دون مشاكل..
واقتنعت الأم بهذا الاقتراح وبالفعل اتصلت به وشرحت له الأمر،واتفقا على أن يزورهما بعد عودة (سامح) من الغردقة..
وقد كان..
طلب (محمود) حضور والدي (سامح) أيضا،وكان حاسما في كلامه معهم..ولم يستطع (سامح) إقناع (محمود) ببراءته الزائفة والتي صدقها والداه..
كانت (شيماء) تجلس معهم ترى وتسمع ما يحدث دون أن تنطق بحرف إلا إذا طلب منها ذلك.. وكانت تحتقر (سامح) لقدرته البارعة في التمثيل،لكن عمها كان يصدقها لأنه حذرها قبلا من (سامح) ولم تستمع له..
وانتهى الأمر أخيرا..
وبعد أن غادر الجميع جاءت (حنان) بعد اتصال من (شيماء) لتجدها تبكي بمرارة..
- علام تبكين يا حمقاء؟
نهرتها (حنان) بعنف فقالت (شيماء) :
- أنا لا أبكيه..بل أبكي حالي..أبكي غفلتي..وأحتقر نفسي لأنني أحببته وصدقته رغم كل ما فعله.. أبكي لأنني تنازلت عن كرامتي مرات ومرات لأنني كنت أحبه..كنت أظن أن تساهلي معه وتسامحي سيجعلانه يخجل من نفسه ومن تصرفاته لكني كنت مخطئة..
وانخرطت في البكاء مرة أخرى فضمتها (حنان) إليها وراحت تمسح على شعرها وتطيب خاطرها ببعض الكلمات..
وبعد ساعة طلبت (حنان) من (شيماء) أن تنام علها تهدأ،وليتحدثا مرة أخرى في الغد بعد موعد العمل..
ركبت (حنان) سيارتها وهي تشعر أنها مثقلة بالهموم..صديقتها من جهة ووالديها من جهة أخرى..لم يملا من تلك الحرب التي اشتعلت ضدها منذ بضعة أشهر اعتراضا على التغيير الذي طرأ عليها..
غيرت (حنان) وجهتها فجأة واتجهت إلى جاردن سيتي..كانت تريد مكانا هادئا بعض الشيء..وهناك جلست على أحد المقاعد المطلة على النيل..
لم تكن تعرف كيف ترضي أهلها..لماذا احترموا رغباتها في كل قرار اتخذته في حياتها ولا يرضخون لهذا القرار؟ ..
" من سيتزوجك وأنت بهذا الشكل.. "
" تبدين كامرأة في الخمسينيات ولست شابة صغيرة.. "
كانت كلماتهم اللاذعة تتردد في ذهنها،فمالت للأمام ودفنت وجهها بين كفيها وهي تشعر بضيق في صدرها..
- هل أنت بخير يا آنسة؟
انتفضت على ذلك الصوت واعتدلت في جلستها لتجد شابا جالسا بجوارها،فأخذت حقيبتها وقامت من مكانها لكنه أوقفها قائلا:
- انتظري من فضلك..
فتوقفت وهي تزفر في ضيق والتفتت إليه فقال:
- أتمنى أن تأخذي كلامي على محمل الجد..
واستطرد وهي تنظر إليه وقد انعقد حاجباها:
- هل أنت مرتبطة؟
لم تتحمل سماجته فتركته وركبت سيارتها وعادت للبيت..لكنها لم تكن تعرف أنه يتبعها من بعيد..
يتبع ...........
رواية دموع فوق الثلوج |