قصة دموع فوق الثلوج |الفصل السادس عشر
التقت عيناه بعينيها دون أن يبحث كثيرا بين المسافرين..وكان قلبه يخفق احتفالا بقدومها..
عانقها لتشعر بنفس الرجفة التي شعرت بها من قبل..
- حمدا لله على سلامتك..ومرحبا بك في روسيا
- شكرا
كانت تشعر بسخونة في وجنتيها من الخجل،وفوجئت به يأخذ حقيبتها من يدها ويدفعها أمامه وهو يشير لها لتتحرك..
- كيف كانت رحلتك؟ لا بد أنك شعرت بالضيق لطول الوقت
- بعض الشيء..لكني حاولت قتل الوقت بالنوم
كان قلبها لا يكف عن الاضطراب منذ أن رأته..رأت عينيه مرة أخرى..هذا ليس حلما..
استقلا سيارة أجرة إلى محطة القطارات،وقد كانت السيارة دافئا نوعا ما بالمقارنة بالجو خارجها والذي لم يزد على أربع درجات مئوية..
- الطريق ليس طويلا..ساعة واحدة وسنكون في محطة القطار
أحست برجفة خفيفة عندما مال على أذنها في تلك اللحظة..كانت تعجب من حالها؛فقد كانت تتصرف بحرية مع (سامح) أو أي صديق لها،لكن (إيفان) كان مختلفا..كانت بقربه تشعر بشيء غريب،لكنه محبب إلى نفسها..
لم يتحدثا كثيرا في الطريق،ثم وصلا أخيرا إلى محطة القطارات..وبعد أن أنهيا إجراءات الدخول جلسا ينتظران..
- أمامنا أقل من ساعة على موعد القطار..
ثم أردف:
- أعرف أنك متعبة من الرحلة..لكن روسيا مساحتها كبيرة كما تعرفين
ابتسمت وقالت:
- أعرف..لكن من قال أنني متعبة؟
نظر لها بود ثم استأذن منها ليعود بعد قليل بكوبين يتصاعد منهما البخار،وقال وهو يقدم لها أحدهما:
- أنت لم تعتادي على جونا البارد بعد
وجلس بجوارها فقالت وهي تمسك الكوب بكلتا يديها طلبا للدفء:
- شكرا لك..
ثم واصلت:
- لا تقلق فقد أعددت العدة لذلك
كانت الساعة تقترب من السابعة مساء،والجو يزداد برودة..ومضى الوقت في الحديث حتى جاء الموعد وركبا القطار..
- الرحلة ستكون طويلة بعض الشيء
قال (إيفان) هذه العبارة وهو يشعر بالسعادة لأنه سيقضي أكبر وقت ممكن بجوارها..ولم يكن يعلم أنها تبادله ذات الشعور..
- أشعر أنني في حلم..فأنا لم أكن أتخيل أنني سأتمكن من زيارة روسيا في يوم من الأيام
التفت إليها (إيفان) وقال متسائلا:
- لماذا؟
- عندما كنت طالبة كنت أتعلم الروسية في المركز الثقافي الروسي،وكانت هناك مسابقة جائزتها رحلة إلى روسيا لمدة أسبوع..
وسكتت قليلا ثم تابعت:
- لكنني لم أتقدم للمسابقة بسبب وفاة والدي في ذلك الوقت
شردت قليلا في ذكرياتها فقال (إيفان) بنبرة حاول إضفاء بعض المرح عليها:
- ولماذا اخترت الروسية بالذات؟
انتبهت (شيماء) من شرودها وقالت:
- كنت أريد لغة غير تقليدية،فالإنجليزية والفرنسية والإسبانية أو اللغات اللاتينية عموما صارت منتشرة..فكرت في تعلم الصينية لكني عدلت عن ذلك..وبعد بحث استقر اختياري على الروسية
- جيد أنك اخترتها..
بدأ القطار بالتحرك..ونظرت له (شيماء) مستفهمة فقال:
- لأنك لو لم تختاريها لما التقيتك..
تزايدت ضربات قلبها واحمر وجهها فخفضته وقد أصيبت بالارتباك..لكنه لم يهتم لارتباكها وواصل وهو يقترب منها أكثر:
- أنت لا تعرفين ماذا فعلتِ بحياتي منذ أن رأيتك..
تعالى صوت دقات قلبها ليصم أذنيها عن كل ما حولها إلا من صوته..
- لم أعد أرى الدنيا إلا من خلال عينيك
كانت تحملق فيه وقد أصابها الذهول..لقد صح توقعها الذي حاولت تجنب التفكير فيه من قبل.. نظراته التي أطل منها الشوق واللهفة عندما رآها فضحت ما بقلبه قبل أن يتكلم..
اعتدل في مقعده وهو يحاول السيطرة على مشاعره التي أعلنت العصيان لتفصح عن نفسها..لكن إلى متى سيظل صامتا؟ ..إلى متى؟ ..
ظلا صامتين لدقائق ثم قال (إيفان) محاولا تغيير الجو العام:
- ألا تريدين معرفة مسار جولتك السياحية؟
التفتت إليه وقد رسمت ابتسامة على شفتيها ثم قالت:
- بلى
أخرج دفترا صغيرا من جيبه ثم فتحه وراح يخبرها عن أهم المعالم التي سيذهبان إليها..
- كنت أتمنى لو أنكِ جئتِ في الصيف لتشاهدي الليالي البيضاء والاستمتاع بنزهة في النهر..
ثم نظر في عينيها مباشرة وتابع:
- لكني لم أستطع انتظار عام كامل دون أن أراك
مرة أخرى لم يستطع كبح جماح مشاعره..فواصل الحديث محاولا أن يبدوا هادئا..
مرت الساعات الأربع بسرعة بالنسبة له،لكن عزاءه أنه سيقضي أسبوعا كاملا معها تحت سقف واحد..
وصلا إلى المنزل بعد منتصف الليل وقد نام كل من بالمنزل لانشغالهم في الصباح..عدا (فاليريا) وأمها..كانتا مستيقظتين في انتظار ضيفتهم..
دخل (إيفان) إلى البيت وبعده (شيماء) ..ثم وضع الحقيبة بجوار الباب وسلم على أمه وأخته ثم قال مشيرا إلى (شيماء) :
- (شيماء) ..صديقتي المصرية..
ثم وجه كلامه لـ (شيماء) قائلا:
- هذه أمي..وهذه أختي (فاليريا) والتي ستشاركينها غرفتها طيلة إقامتك معنا
رحبت بها الأم ودعتها لتناول عشاء خفيف أعدته لهما،ثم استأذنت منهم للنوم لأن لديها عملا في الصباح..
خلعت (شيماء) معطفها لتأخذه منها (فاليريا) وتعلقه على المشجب المجاور للباب ثم تجلس معهما على الطاولة..
- حمدا لله على سلامتك
نظرت (شيماء) إلى (فاليريا) وشكرتها..كانت عينيها كأخيها تماما..اختلط فيهما الرمادي بلون السماء،وقد بدا فيهما السرور لوجودها معهم..
- ألن تذهبي للكلية في الصباح؟ ..ادخلي لتنامي
ابتسمت بخبث وقالت:
- أريد أن أريها مكان نومها في الغرفة،لذا فسأنتظر معكما
قطب (إيفان) جبينه وقال بضيق:
- أريها الغرفة الآن ثم اتركيها تأكل
ضحكت (شيماء) رغما عنها،ثم ذهبت مع (فاليريا) إلى الغرفة..
- سأنام أنا على هذا الفراش وأنت على الآخر
كانت غرفة فتاة بالفعل،فطلاء جدرانها كان ورديا،وأثاث الغرفة رقيق وبسيط..
- شكرا لك يا (فاليريا) ..أرجو أن أكون ضيفة خفيفة
- لا تقولي هذا..لقد كنت أنتظرك على أحر من الجمر؛فـ (إيفان) كان يتكلم عنك كثيرا في الآونة الأخيرة
احمر وجه (شيماء) وقالت بحذر:
- ماذا كان يقول؟
- هل انتهيت يا (فاليريا) ؟
التفتت الفتاتان لتجدا (إيفان) يقف أمام الباب،فقالت (فاليريا) بخبث:
- سأحضر حقيبتها إلى الغرفة
ودفعته بيدها دفعا خفيفا وهي خارجة من الغرفة،فهز (إيفان) رأسه وقال:
- هيا فالطعام سيبرد
خرجت معه ثم عادت (فاليريا) لغرفتها..وجلست (شيماء) إلى المائدة وبجوارها (إيفان) ..وقد كان الطعام دافئا ولذيذا..
- أعجبك؟
أومأت (شيماء) برأسها ثم قالت:
- بيتكم جميل
ابتسم ورشف من حسائه ثم قال:
- هذا هو بيتنا منذ أن ولدت
- لقد جعلتك تسهر ولن تستطيع الذهاب لعملك غدا
هز رأسه وقال وهو ينظر إليها مباشرة:
- لن أذهب للعمل فقد أخذت إجازة لمدة أسبوع
رغم الإضاءة الخافتة إلا أنها رأت في عينيه ذلك الشوق الذي رأته من قبل..فخفضت وجهها نحو صحنها وقالت وهي تعبث فيه بالملعقة:
- أنت تحصل على الكثير من الإجازات
- لا تنسي أنني صاحب العمل
ابتسمت ثم واصلت الأكل..وبعد أن انتهت شكرته على الطعام ثم قالت بعد تردد:
- ستنام؟
- هل ستنامين أنتِ؟
ابتسمت وقالت:
- لا أشعر بالنعاس
- ولا أنا
قالها وقام من على كرسيه فقالت بحرج:
- لا بد أنك متعب
- لا تقلقي علي..لقد نلت قسطا كافيا من النوم قبل أن ألقاك
كان يكذب فهو لم يغمض له جفن طيلة الليلة الماضية،وراح يتقلب في فراشه وهو يشعر بالتوتر لاقتراب موعد وصولها إلى روسيا..
- ما رأيك أن نخرج إلى الحديقة؟
- لا بأس
كادت أن تخرج خلفه لكنها فوجئت به يعترض سبيلها وهو يقول:
- ستخرجين هكذا؟ ..
لم تفهم مقصده إلا عندما وجدته يحضر معطفها ليلبسها إياه..
- لا تنسي أن ترتدي معطفك دوما قبل خروجك من البيت،فدرجة الحرارة منخفضة جدا..نحن لسنا في مصر
أزاحت يده بلطف لتكمل ارتداء معطفها وقد أصابها الارتباك..ثم خرجت من الباب ليلفح وجهها تيار من الهواء المثلج ارتجفت على إثره وهي تتبع (إيفان) إلى الحديقة..كان البيت مكونا من طابق واحد وكانت الحديقة خلف المنزل..
جلس (إيفان) على إحدى الأرائك ثم أشار لها لتجلس بجواره..جلست وهي تنقل بصرها بين أرجاء المكان وتقول:
- مكان جميل
- عندما ترينه في النهار سيعجبك أكثر..
ثم مال على أذنها وقال هامسا:
- هل تريدين معرفة ماذا كنت أقول؟
التفتت إليه وعلى وجهها علامات الدهشة وقالت:
- تقول ماذا؟!
قال بنفس الصوت الهامس:
- عندما كنت أتحدث إلى (فاليريا) عنك..
اندفع الدم إلى وجهها وشعرت بسخونة وجنتيها رغم برودة الجو،لكنه لم يلحظ ذلك بسبب الإضاءة الضعيفة،ورغم ذلك فقد أشاحت بوجهها حياء..لكنها فوجئت بيده تدير وجهها إليه وهو يقول:
- لماذا تبعدين عينيك عني؟ ..لماذا لا تريدينني أن أقرأ ما أخفيته بهما؟ ..أنا لم أنم منذ البارحة وأنا أفكر في اللحظة التي سأرى فيها عينيك
رغم سخونة وجنتيها إلا أن أطرافها كادت تتجمد..لكن ليس بسبب برودة الجو..فخفضت وجهها قليلا وقالت محاولة تغيير دفة الحديث:
- ألم تقل أنك نمت جيدا؟
خرجت الكلمات مرتجفة من بين شفتيها،وأدركت أن جسدها يرتجف هو الآخر..وقبل أن تضيف كلمة أخرى أحاط جسدها بذراعه وضمها إليه..
ازداد ارتجاف جسدها فضمها إليه أكثر،لتشعر بقلبه المضطرب كقلبها..وبدأت نبضات قلبه تبث لها الدفء فأراحت رأسها على صدره وقد انهارت مقاومتها واعترفت لنفسها أخيرا بما رفضته قبلا..
إنها تحبه..تحبه بجنون..لا تعرف متى بدأت الشرارة،لكن هذا لا يهمها فهي تشعر أنها تحبه منذ زمن طويل،ربما قبل أن تلتقيه..كانت فكرة مجنونة لكنها تصدقها..ولم تكن تدري أنه كان يشاركها الشعور ذاته..أنه أحبها منذ زمن..وقد أحس في هذه اللحظة بما تكنه نحوه من مشاعر..
مد يده الأخرى وأمسك بكفها ليدفئها،ليصبح إحساسه يقينا..إنها تحبه كما يحبها هو..لقد تسللت إلى قلبه بهدوء لتقلب حياته رأسا على عقب،فكان يفتقدها في كل مكان يذهب إليه،وفي كل عمل يقوم به.. أصبحت جزءا من حياته دون أن تشعر هي بذلك،وبعدها عنه كان يترك فراغا مؤلما لديه..
- لقد كنت أتمنى هذه اللحظة منذ زمن..أن تكوني بقربي لا يفصل بيننا شيء..لكن لو كنت تعرفين كم أحبك لما ابتعدت عني أبدا
خفض رأسه و نظر إليها ليفاجأ بأنها قد نامت..ابتسم ثم راح يمسح على شعرها وقد بدأت دقات قلبه تهدأ..تمنى لو أنها ظلت بقربه للأبد،لكنه كان مضطرا لإيقاظها كي تنام في الداخل حيث الدفء..
- (شيماء) ..
كان يربت على كتفها بلطف ففتحت عينيها لتنتبه أنها نامت على صدره..ابتعدت عنه قليلا وهي تشعر بالخجل فقال يمازحها:
- ألم تقولي أنك لا تشعرين بالنعاس؟
ابتسمت بخمول وقامت من مكانها،ودخلا معا إلى المنزل..ثم تركته ودخلت إلى غرفة (فاليريا) بهدوء..بدلت ثيابها ثم ارتمت على الفراش لتغط في نوم عميق..